الجمعة، 20 مايو 2016

تسمع وزير الكهرباء وهو يتحدث للإذاعة السودانية، عن زيادة تعرفة الكهرباء، فتقفز إلى ذهنك صورة دول العالم المحترمة، التي تضع مصلحة المواطن فوق كل مصلحة ورفاهيته هي القيمة والهدف السامي الذي يعمل من أجله جميع من هم في مواقع المسؤولية.. لذا عندما يتحدث المسؤول منهم يعمد إلى مستشاريه ليهذبون وينقحون خطاباته ويقدمون له النصح والتوجيه بما يمكن قوله وما لا يمكن قوله، ليس وفقاً لأهوائه وإنما وفق معطيات واحصاءات مدروسة بطرق علمية ولكن (من خلّى عادته، قلّت سعادته) فسادتنا وكُبراؤنا من يتحدث منهم تتساطع في يافوه الهاشمية كما يقولون، فيردد ما لا يعرف، ويصيح صياحاً يعود عليه وبالاً، كأنه تحت تأثير مخدر أو حبوب هلوسة، فإذا تأملت ما قاله وزير الكهرباء السيد معتز موسى لإذاعة أمدرمان، حين ردّت (إن زيادة تعرفة الكهرباء ليس الغرض منها زيادة الموارد المالية، وإنما الغرض منها ترشيد الإستهلاك).. ما أعجب هذه الكلمة وما أقبه من قول، تجيء ممن جعلوا حياة الناس كابوساً مرعباً وحولوها إلى جحيم وعذاب لا يطاق.. ما هكذا يعامل ويعلّم المواطن أيها الوزير الرشيد، فالمواطن كيان له احترامه، المواطنون لهم قلوب يفقهون بها، وآذان يسمعون بها ويعون القول. ألم تسمع أيها الوزير أن هنالك طرق لترشيد الكهرباء تدرس في الجامعات والمعاهد، وتقام لها الدورات التدريبية، وتنشأ وتطور من أجلها الصناعات؟! فترشيد استهلاك الكهرباء لا يكون قسرياً وبهذه الطريقة الفجة المعوجّة.. فإن له أدواته وله آلياته وأجهزته، التي يستعان بها لتوظيفه بالطريقة التي تعود بالنفع على الجميع، دولة ومواطنين.. فهناك مصابيح وأجهزة التكييف، التي تعمل بالتأثير الحراري، تضيء وتعمل عن وجود الشخص وتنطفئ عند ذهابه، تستخدم حتى في الدول الغنية مثل السعودية، التي تنتج فيها منطقة الرياض لوحدها 10,000 ميغا وات، أي أكثر مما سينتجه سد النهضة الأثيوبي، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها. وهناك مصابيح الفلوروسنت وهناك منظمات التيار الكهربائي، وغيرها مما يعلمه المختصون في هذا المجال، من مهندسي وفنيي الكهرباء، فمن الظلم للوطن والمواطن اسناد الأمور لمن هم ليسوا أهلاً لها!!
وهل حقاً نحن نحتاج إلى ترشيد الكهرباء! فالخبير الإقتصادي عصام عبدالوهاب بوب، يقول أن الشعب السوداني أقل الشعوب استهلاكاً للكهرباء، فهو يستهلك ما قيمته 30% من الإستهلاك المصري و50% من الإستهلاك السعودي؟
وأمر آخر في غاية الأهمية، ونحن في بلد الشمس تسطع فيه طوال العام، أما كان من الأجدى أن نفعل مشاريع الطاقة الشمسية، وهي طاقة نظيفة منخفضة التكلفة.. فالدول الغنية مثل ألمانيا وفرنسا، ورغم أن فترات سطوع الشمس لديهم معدودة، إلا أنهم استفادوا من الطاقة الشمسية، وتقليلاً من اعتمادهم على البترول المستورد..
لقد صرفت الدولة مبالغ طائلة في انشاء سد مروي -بتكلفة تقدر بحاولي مليار و950 مليون دولار عبارة عن ديون وقروض ربوية سوف يرزح تحتها المواطنين لأجيال قادمة.. والكل تابع البروباغاندا والضجة الإعلامية المصاحبة للمشروع، فأصحاب التلميع وقبيلة الوزراء وجيش الإعلاميين صوروا للناس أن سد مروي، هو المارد الذي سيخرج من فانوس الإنقاذ السحري، الذي سيحل جميع مشكلاتهم ويحقق أمانيهم وظلّوا منتظرين (شبيكم لبيكم الكهرباء والتنمية والتطور ووصلوكم مقاعد الدول العظمى بين أيديكم)، ولكن جائت كلمات وزير الكهرباء "إن كهرباء سد مروي لا تكفي الخرطوم"، كشك دبوس أفرغ بالون الأماني الذي يسبح عالياً في فضاء الأحلام، فسقطوا غير سالمين، وتكشّف للناس مرّة أخرى زيف الحكومة، وشعارتها الخادعة وعدم مصداقية وعودهم بتحسين المعيشة، وبما أننا في عهد الإنتكاس فلا محاسبة. ولكن إن شاء الله سوف يكون حساباً عسيراً يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.

وإذا سأل سائل عن نسبة السكان الذين تصل إليهم شبكة الكهرباء، سوف تقتل الإجابة بالذهول قلوب (طيبة ورحيمة).. إن نسبة السكان الذين تصل إليهم شبكة الكهرباء هم 35% فقط من نسبة السكان، فكل هذه الضجّة هي في الثلث فقط. أما أهلنا (الغُبُش) في المنافي البعيدة والهامش، في معسكرات النازحين أو الكهوف، فلهم الله من قبل ومن بعد. كل هذه الضجة لا تشملهم، فهل تسمع لهم صوتاً أو ترى منهم أحداً!؟ إنهم يرزحون تحت هموم أخرى، همّ الأمن لهم ولفلذات أكبادهم، همّ لقمة العيش التي تسد جوعهم، همّ شربة الماء النظيفة -ولا أقول الباردة الهنية- التي تروي عطشهم، همّ مسكن يؤويهم ويسترهم ويقيهم حرّ الصيف وقرّ الشتاء.
إن قرارات حكومة الإنقاذ ووزرائهم دائماً تأتي غير مدروسة، وإن شئت فقل مدروسة بخبث لصالح أهل البيت الإنقاذي، أما المواطن فله قبض الريح.. فزيادة تعرفة الكهرباء تستزيد جميع السلع، فالمصانع تعمل بالكهرباء، ومضخات الزرع تعمل بالكهرباء، وحتى الأجهزة البسيطة لانتاج الغذاء وحفظه تحتاج إلى الكهرباء، وبالتالي فستزيد الأسعار بصورة جنونية، وهي التي ما عرفت ثباتاً من الأساس، وعجزت الحكومة أو تغافلت عن وضع حدٍ لها.. وهنا تحضرني عبارة الوزير الثالثة "إن الحياة زائدة والكهرباء ثابتة".. ففي هذا العام بالذات إن كانت هناك مصداقية لانخفضت تعرفة الكهرباء، فأسعار البترول العالمية انخفضت إلى أقل من النصف -سعر البرميل من 120 دولار إلى أقل من 50 دولار.. فإن كانت المحطات بحاجة إلى الوقود فقد انخفضت قيمته وهناك توقعات باستمرار الإنخفاض لدخول إيران السوق العالمية بعد الإتفاق النووية الذي وقعته مع الدول السبع والذي يقضي برفع الحظر عنها.
ولكن ما لا يريد الوزير إظهاره أو التطرق له هو شركات الكهرباء الحكومية التي تعددت وتعددت فيها الوظائف والرّتب والمخصصات لموظفيها من الإنقاذيين والمؤلفة قلوبهم وأصحاب الترضيات، فأثقلت كاهل الحكومة.. أما كان من الأجدى دمجها والعودة بها إلى الشركة القومية للكهرباء وانبثاق إدارات منها بدلاً من هذا الصرف البذخي الذي يتحمله المواطن المثقل أصلاً بالهموم؟!
هذا هو همّ الكهرباء، أما همّ المياه في بلد تجري من تحته الأنهار، فذاك وجعٌ آخر وغصّة في الحلوق سنعود إليها.. سنظلّ نكتب ونكتب عن السلبيات والنقائص والعجائب التي يبدو أنها لا تنقضي على أمل أن يستقيظ لسادتنا وكبرائنا ضمير، أو أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.

السبت، 30 أبريل 2016

اشتهر في مدينة القضارف، شرق السودان، شخص يُدعى "الفكي أبو نافورة"، وقصته ترجع إلى عام 1967، عندما ضرب الجفاف المدينة، واتجه أبناؤها إلى البحث عن المياه الجوفية، وبدؤوا بحفر بئر ارتوازية، وكانت المفاجأة بعد أن حفر المهندسون عميقًا أن اندفعت المياه بضغط عالٍ إلى عنان السماء، ففروا خوفًا. إثر ذلك انتشرت إشاعة في البلاد وهي أن مفجِّر هذه البئر هو شيخ لُقب "الفكي أبو نافورة" وأشيع أن الماء المنبثق عنها يعالج كل داء. وتوافد الناس من جميع أنحاء السودان يطلبون التداوي من أمراضهم ومِنهم مَن يطلب الرزق ومِنهم مَن يطلب الزواج. كان ذلك في وقت انتشرت فيه الأمية وساد فيه الجهل.
أما اليوم، فالمتأمل في إعلانات بعض الفضائيات العربية يجد "الفكي أبو نافورة" وبئره ولكن في صورة حديثة. من السهل في التلفزيون أن تجد إعلانات لـ"أصحاب الطريقة النورانية الروحانية لعلاج السحر والمس وطرد الشياطين" وأخرى لـ"رد المطلقة والهارب وتحويط الجن وفك المربوط وإسعاد العاجز وترحيل الأشرار والظالمين من المنازل ودفع الحسد وفك التابع وطرد القرين ورجوع الغائب". وإذا واصلت المشاهدة فستجد "علاج العجز الجنسي والعقم وغير ذلك".
أرقام الهاتف متوفرة ومتعددة على الشاشات، كما تتعدد جنسيات الشيوخ، فتجد الشيخ المغربي الذي يجلب الحبيب في عشر دقائق، والشيخ السوداني الذي يعالج من العجز الجنسي ويرد للمجنون عقله والشيخ الهندي الذي يفك السحر الأسود والسحر الأحمر والسحر الهندي وغيرهم وظهرت نساء يكشفن ما قُدر لك في مستقبل أيامك. لم يبق لهؤلاء القوم إلا القول بأنهم يردون الروح للميت.
لكن في الحقيقة فليدعوا ويقولوا ما يشاؤون، إن الخطأ هو خطأ المشاهد والمتابع لهذه القنوات أساسًا وخطأ الذين ذهبوا إلى تصديقهم والترويج لهم.
لكن قد لا يتحملون وحدهم كل الوزر لأن انتشار ظاهرة أصحاب القوة الخارقة وأصحاب الضعف المهين إنما هي نتاج ما لدينا من حكومات تستثمر في التفاهة وتسوِّق للدجل والشعوذة، بعدما فشلت في إقامة تنمية حقيقية تعمل على تطوير الإنسان والسير إلى المستقبل.
إن برزت هذه الظاهرة في خمسينيات أو ستينيات القرن الماضي، لالتمسنا لأبناء تلك الحقبة العذر حيث كانت تسود الأمية والجهل، ولكن الآن مع انتشار العلم والعولمة وازدياد أعداد المتعلمين والمتخرجين من الجامعات والذين نالوا أرفع الدرجات، ما عذر البعض وهم يركضون إلى شيخ متهالك في غرفة مظلمة معبأة بالبخور والسموم حتى ينال منه بعض أمل أو وعد بتغيير؟ ويبلغ العجب منتهاه عندما تجد أصحاب أعلى الشهادات العلمية وأرقى المناصب السياسية يزورون هؤلاء المشعوذين.
إنه بحق زمن الخواء وزمن الحكومات التي تقود أفرادها إلى الفراغ. والنفس البشرية إن لم نشغلها بالحق، انشغلت بالباطل، فلا تنمية ولا مشاريع ناجحة ولا أمل يلوح في الأفق يوعدنا بحل جميع مشاكلنا وقضايانا الملحة مثل البطالة والتدني الاقتصادي.
لا يمكن نفي أننا أمة تؤمن بأن للأنبياء معجزات أيدهم الله بها، لكن وجب النظر إليها في سياقها وأطرها، ولكن أن يخرج علينا في زماننا من يضعون أنفسهم موضع الأنبياء، وبعضهم ينسب لنفسه ما اختص به ربنا سبحانه وتعالى، فذلك ما لا يقبله عاقل. وإننا نطالب أساتذة وطلاب علم الاجتماع وعلم النفس أن يدرسوا هذه الظاهرة لخطرها واستثمارها في الوهن الاجتماعي والضعف المجتمعي. إنها مخدر أشد فتكًا من المخدرات وعلى الباحثين والعلماء أن يستنبطوا الحل قبل أن تنهار مجتمعاتنا. إن التغيير إذا لم نسعَ إليه لن يأتي، وإن الأمل إذا لم نصنعه فلن يولد من عدم