الاثنين، 6 يناير 2014

الجفاف

 

 قابلته مبتسما كعادته,فهو شاب ذو وجه بشوش يفيض حيوية ,مسكون بحب الأرض.مازحته ألا تعبس أبدا ! اتسعت ابتسامته وقال: من يعشق هذه الأرض لن يعرف الحزن سبيلا الى قلبه أبدا.غادرني وأنا أتأمله,إنه نال من اسمه أوفر الحظ والنصيب (السِّميح) كان نموذج للمُزارع وزينة شباب قريتنا ,التي ترقد على تلة تشرف على مدينة ريفية, توحي باليُمن وتبدو للرائي وقد أحاطت بها المزارع تتخلها ممرات الرمال الذهبية التي مهدتها خطوات المشاة كقطعة حرير عظيمة سندسية موشاة بالقصب,المَزارع عبارة عن وحدات صغيرة  يسمونها بِلدات معظم السكان مالكون لها إلا القليل منهم فهم يعملون في بلدات بعض النفر الذين استهوتهم المدينة بأنوارها وضجيجها,ولكن الغالب هو ان رجال ونساء قريتنا مفتونون بحب الارض ,أماعشق السميح لها كان نادر المثال . نعتمد في الري على مياه الأمطار ,فالمطر هو شريان الحياة يغذي آمالنا وأحلامنا قبل أن يروي الأرض.حينما تهل تباشير الخريف ويضيئ البرق السماء تضئ معه الأماني وتشرق النفوس .

حياة السميح كانت الزراعة ,يخرج باكرا الى أرضه يعمل بجد واجتهاد رائحة الدعاش تملأ رئتيه وتنعش بدنه فتنتعش أحلامه الوردية بمستقبل أبنائه الزاهر ,الذي يعجن بساعديه طينة لبناته باكسير الحياة الذي يتساقط من السماء رحمة من رب كريم ,فبني قصورا وقلاعا رائعة.الأيام تمر هانئة هادئة تنساب انسياب مياه نهر يجري سهلا باتجاه البحر .أرقب السميح يعمل بجد يزرع ويحصد بسعادة بالغة وأبنائه حوله يكبرون,يرجو أن يكون منهم المهندس والطبيب والوزيرولم لا ؟ ما الذي يمنع الفقراء ارتقاء سلم المجد إذا سقوا أحلامهم بعرق الجد وأضاؤوا طريقهم بنور الأمل.

يعود مساء قبيل الغروب الى بيته يتناول غداءه مع أبنائه ويحثهم على الجد والاجتهاد في طلب العلم.وقت الأصيل يتمدد مع بعض أصدقائه المزارعين على الرمال الذهبية يتجاذبون الاحاديث,لا يبخل عليهم بالنصح والتوجيه فقد كان مزارعا متنورا.وكثيرا ما أراه واقفا مشدوها يتأمل منظر غروب الشمس البديع,الذي لفرط تفاؤله كان يثير في نفسه الأمل ,فالغروب عنده اتكاءة توعد ببزوغ فجر جديد.

في نهاية فصل الشتاء من كل عام كان المزارعون يبدأون في تقليب الأرض وحرثها استعدادا لموسم جديد,بإذن الله,ومع تباشير الخريف وتراكم السحب والبرق يخرج من خلالها يولد الامل في نفوسهم ,تنبت المحاصيل الذرة والسمسم والفول والكركدي خضراء  تسر الناظرين فتخضر الأماني وتتوشح سندس الأمل الندي.والسميح يرعى النبت كأم رؤوم تعتني بوليدها ,يردد الأهازيج والأناشيد بصوت شجي فتزدهر الأرض ,ألم يقل علماء الأحياء أن النبات يحس ويطرب .

وفي عام من الاعوام كان ما لم يكن في الحسبان ,صنف المطر ,لاسحاب ولا برق أياما وأياما ,السماء حيث الشمس متوهجة لافحة كأنما تحتفل بغياب السحاب ,وحر قائظ ما اعتادته قريتنا من قبل,تململ الناس صلوا الاستسقاء , ولحكمة علمها عند بارئنا لم ينزل المطر .جف الزرع والضرع ,اصفرّت الأوراق ,أصبحت كهشيم تزروه الرياح ,تسربت الأحلام الوردية من النفوس تسرب الماء من بين فرجات الأصابع .فهبت في النفوس أعاصير اليأس فاقتلعت ما تبقى من الأمل فيها فخر فوقهم اليأس.عشعش الهم فوق رأس السميح فهو ما خلق الا للارض والزراعة لا يجيد صنعة ولا يجر قلما .بعد مغالبة مع النفس قرر الذهاب الى المدينة عله يجد فيها عملا ,فالمخزون من قوت عياله بدأ ينفد .جال في المدينة برفقة أحد أقربائه ,مياه كثيرة فالمدينة على ضفاف خور ماؤه زلالا يجري طول العام رغم الجفاف .جلس على الشاطئ يعبث بالرمال ,نظر بعيدا بعيدا فرأى فيما يرى الحالم ترعا تُشق ومضخات المياه على جوانبها كالقلب تضخ المياه في الأرض اليباب فتحييها بعد موتها ,فاق من حلمه يردد : هيهات هيهات ففي الدول النايمة لا أحد معني بتنمية الوطن أو المواطن ! ,ويهمس(بجانب البئر وعطشان) .

عمل بمشاركة أحد أقربائه بالتجارة,أعد لأسرته بيتا متواضعا سجل أبناءه بمدرسة الحي ,عاد الى القرية في ذلك اليوم البهيم وطلب الى زوجته الاستعداد الى الرحيل ,حاول أن يبدو متماسكا رغم الألم . جاءت العربة التي ستقله وأسرته الى المدينة .ركب أبناءه وزوجته وكمن نسي شئيا عاد أدراجه الى داخل منزله الأثير ,شهق شهقة تزلزلت بها أركان أنفس المودعين ,أسرعوا دفعة واحدة ولكنهم تسمروا عند باب الدار ,السِّميح مُمَدد على الأرض جثة هامدة ,فارق الحياة .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق