الخميس، 18 يونيو 2015

يوم أن بكى الوزير 
هذا الوزير الذي بكى أمام الكاميرات , وأمام جموع من الناس .. يحق أن نسميه وزير المشاعر الإنسانية .. مالي كنت أحس كلما رأيته من قبل , أنه كتلة من الأحاسيسالفياضة , وأنه يختلف شكلا , ويختلف معنى عن كل الوزراء الآخرين وكأنه يحمل الدفء بين جنبيه لكل الناس . لكن قد خاب إحساسي , فهو إنما يحمل كل تلك الينابيع الداخلية لفئته فقط ولجماعته , وقبيله .
   وهنا عبر هذا المقال اسمحوا لي أن أتوجه بمقالي لمن بكى أمام الناس .. ولعل أهل البيت الحكومي إن لم نقل جميعهم , لو أتيحت له الفرصة لبكى مثل هذا الوزير .. إنها مشاعر التضامن من أهل الفئة الواحدة .. لمن شعروا أنهم سيفقدونه , فحواء السودانية لم ولن تنجب مثل هذا الزعيم الأسطورة , هذا الزعيم الاستثنائي كما وصفه رئيس تحرير جريدة عريقة وسماه بالضرورة .. وكنت قد شطبت ما ورد إلىّ عبر الجهاز من أن أحدهم يصف الرئيس بأنه لا ينطق عن الهوى .. وهكذا أوصاف عظيمة وضخمة لهذا الرئيس هي ما تدفع الوزير وغيره إلى البكاء والنواح والمناحة ...
  وإننا لنسأل الوزير الباكي , هل بكيت مع حدوث أكبر جرح في تأريخ السودان , جرح فصل جنوب السودان .. إننا لو رأيناك يومها تذرف الدمع وتبكي , لكنت قد كسبت في نفوس الناس جانبا كبيرا وتقديرا واضحا !
   وهل بكيت يا أيها الوزير , وقد قرأت ووصلتك التقارير الواضحة الجلية حول نسبة الفقر في بلادك ؟! وكأن البلد قد أضحى منقسما إلى فريقين : فريق الفقراء وفريق أهل البيت الحكومي , وأصحاب التلميع وقبيلة الوزراء والولاة والوكلاء .. هل بكيت على أعداد الفقراء والمعدمين وعلى إزدياد العاطلين عن العمل .. وإزدياد أصحاب الأعمال الهامشية ..
  وهل بكيت على إزدياد أعداد المهاجرين إلى خارج البلد .. الوطن ينزف أبناءه .. ولعلك إن أجريت استفتاء حول تفكير الكثيرين في الهجرة لوجدت نتائجا عجبا .. ولعل التقارير قد وصلتك وقرأتها حول هجرة العقول من السودان , كم عدد الأطباء في مختلف البلدان ؟!...المهندسين ؟!....المعلمين ؟! المفكرين؟ّ الصحفيين؟! والقائمة تطول ...
ومع هجرة العقول والشباب وهجرة أسر بأكملها , أصبحت القرى خاوية إلا من بعض النساء وكبار السن . هل بكيت أيها الوزير وأنت تدلف إلى إحدى القرى , وحين يموت أحدهم تجد النسوة في حيرة من أمرهن , كيف يجهز الميت وكيف يكفن وكيف يصلى عليه ويدفن .. وترى إحداهن تركض من حي إلى آخر ..أو تعبر إلى قرية أخرى لتنادي من تبقى من رجال ..إنها صورة محزنة مبكية , ولكنك تبكي أيها الوزير على شئ في نفس يعقوب ..
هل بكيت وأنت تدلف إلى مدني .. مدني ود السني تلك الجميلة فيما مضى , وقد أصبحت الآن مدينة أشباح متهالكة , خاوية محفرة , مخيفة , خالية الشوارع ..وتبكي جمال وذكاء أهلها وقد زودوا الثقافة السودانية بآلاف الأسماء الذكية النابهة ..
وهل بكيت أيها الوزير على حال فئة من أبناء السودان ارتضت برقم تعليمها أن تعمل في مجال الرعي في دول الخليج تحت ظروف قاسية أليمة .. هل سمعت أيها الوزير أن الراعي السوداني وفي بعض المناطق الجبلية النائية ينام داخل قفص حديدي خوف أن تهجم عليه الذئاب , هل سمعت بأمثال هذه القصص المرعبة أيها الوزير , ينام الراعي السوداني في قفص وأغنامه في قفص إلأى جواره ليلا .. هل إذا رأيت مثل هذه الحالة سوف تبكي .. وإنني شاهدته بأم عيني ولم يسرده عليّ أحد ! 
  وهل بكيت أيها الوزير وقد وصلتك التقارير حول حال المستشفيات في بلادنا .. هل سمعت أيها الوزير الباكي عن إجراء عملية لطفل في السادسة من عمره شج رأسه دون بنج . لأن أكبر مستشفى في أم درمان ليس مؤهلا في أي قسم منه بما يجعله مستشفى .. هل دلفت إلى مباني إحدى هذه المستشفيات الحكومية ورأيت حالها المزري وبكيت ؟!إنني إذا أردت أن أدخل في هذه الأوصاف لسوف تندهش , وإن كان لك قلب غير منحاز لفئة معينة , فسوف تبكي وتبكي ما شاء الله لك البكاء .. إن عمل فلم وثائقي حول واقع العلاج والأطباء والأدوية وأبنية وأسرة المستشفيات وتم عرضه فسوف يبكي كل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ..
   ولعلك سمعت أيها الوزير بأعظم مشروع تنموي ضخم في المملكة العربية السعودية ألا وهو الهيئة الملكي للجبيل وينبع .. هل تعلم أيها الوزير الباكي أننا كنا نملك في السودان مشروع أضخم وأعظم منه هو مشروع الجزيرة الذي تحطم وتدمر واختفى من الوجود في عهد من بكيت عليه وذرفت الدمع .. هل بكيت أيها الوزير وأنت ترى الأراضي الزراعية بور , والترع قد جفت , وما بقى من أراضي زراعية فإن أهلها يعانون من مافيا البنوك التي تشاركهم جهدهم وتعبهم في المحصول وأحيانا تتغول عليهم !
وهل بكيت أيها الوزير المنعم على أجمل ناقل في السودان : هيئة سكك حديد السودان , أبو الوحدة الوطنية .. هل بكيت منظر قطار الركاب الناصع البياض والذي غاب في عهدكم وانزوى إلى غير رجعة .. وإزداد عدد قتلانا وموتانا في حوادث السيارات , وكنا في ما مضى لا نسمع بمن يموت من حادث في القطار .. هل بكيت على ذلك ...
  وهل بكيت أيها الوزير وأنت تشاهد المجاميع الكثيرة في أرض جبال النوبة وهل تأكل الأعشاب ويسكنون الكهوف ويقاسون أصعب حياة , لا يملكون من حطام الدنيا شئ .. وأضف إلى ذلك فقدان الأمن والأمان فالحرب تحصد أرواحهم ؟!!هل بكيت أم أن ما تقرأه وتسمعه أو تشاهده من تقارير هو محض افتراء من معارضة هشة هزيلة ؟!!
  وهل بكيت أيها الوزير على حال أهلنا في دار فور , إنها مأساة العصر .. مئات القرى تم حرقها وهجر أهلها .. هل بكيت على ما وصلك من تقارير وصور .. يا للألم ويا للفجيعة على دار فور وقد دمرت .. فهل بقي سوى نيلا والفاشر والجنينة .. دار فور العظيمة وخيرها الوافر , من عظمة خيرها كانت الخيل لا تسقى الماء بل تسقى الحليب .. هل بكيت لهذا يا سعادة الوزير , أم أن حكاية دار فور مفبركة غريبة يتم تداولها لافشال المشروع الحضاري العظيم في السودان ؟!!
  ولماذا نذهب للأطراف بعيدا ..وحولك في العاصمة الضخمة آلاف آلاف الفقراء المعدمين .. امرأة تتبارى هي وابنتها الشبشب الواحد والثوب الواحد , يقطنون في بيت الطين , ويدلفون إلى مرحاض الحفرة .. وأنت أيها الوزير الباكي تعيش الحياة المنعمة الهادئة .. تشرب الماء النظيف المفلتر , وأهلك على بعد كيلو مترات يشربون الماء كدرا وطينا , يحسبه الرائي شاي حليب أو يحسبه كوب عصير ليمون بسكر بني قدم إليه , وبعض إخوانك الوزراء ليس هو من يشرب الماء النقي والمستورد من الخارج , وإنما فلترة الماء تشمل كلاب الزينة في البيت , فكلابهم المدللة لا تشرب إلا الماء النقي .. فهل بكيت سعادة الوزير الحساس على أناس يشربون الماء الآسن , وينامون في الظلام لعدم استطاعتهم مجاراة تكاليف الكهرباء ؟!
وأضف إلى الفواجع ما وصلني أثناء كتابتي لمقالتي للوزير , عبر ( الواتساب) , مقال الأستاذ الفاتح جبرا عن السوداني الذي ضاق به الحال , يستشيره في بيع كليته ؟!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق